هي أول
دولة يحكمها ويسيطر عليها رجال دين وبشكل كامل، رئيسًا وحكومة وموظفين وسفراء.
في
العام 1929م أصبحت الفاتيكان دولة مستقلة وذات سيادة، بعد
الاتفاق بين موسوليني والبابا وذلك لفض الاشتباك بين الجمهورية الإيطالية
والفاتيكان، ومنع تدخل رجال الدين في السياسة، ولكي لا يكون للدولة الإيطالية رأسان
في قلب روما بل دولتين مستقلتين.
والفاتيكان
ليس بها تداول للسلطة، ولا شأن للعامة بسياسات الحكومة ولا لأحد رقابة على
ميزانيتها، ومصادر دخلها من تبرعات وصدقات المؤمنين، إضافة لإيرادات بعض الأوقاف
والسياحة. وهذه الدولة المتناهية الصغر، العظيمة النفوذ لا تتعدى
مساحتها نصف كيلو متر مربع، وعدد سكان لا يتعدى 800 شخص، ولكن يتبعها حوالي
مليار وربع كاثوليكي حول العالم.
رئيس
الدولة هو البابا، ويسكن في قصر مكون من 1400 حجرة وحكومتة مكونة من 400 أسقف،
ويعين البابا 120 كاردينالًا مندوبين عنه في كنائس العالم، يجتمعون جميعا معا
بالفاتيكان عند وفاة البابا ولا يغادرون مكانًا مغلقًا عليهم إلا بعد اختيار أحدهم
خليفة للبابا مدى الحياة - تقريبًا على طريقة اختيار خليفة المسلمين في
عهد الصحابة -وقديما كان لابد وأن يكون البابا إيطاليًا، وتم كسر القاعدة في
عام 1978م باختيار بولنديًا بابا وهو
يوحنا بولس الثاني.
عندما
تتجول في الفاتيكان - على الأقدام طبعا - تشعر أنك في بيت من الأسرار فكل ركن
فيها تحته سر عظيم؛ بسبب ما حُكي عنها من قصص وأحيانا خرافات عن أسرارها
كالأرشيف السري، وفرسان المعبد، والأسرار المدفونة أسفلها، وكذلك قصص
الصراعات بين الأساقفة، وما شهدته الدولة من الفساد المالي والأخلاقي لكثير من
رجالها، ولكن لم يجرأ أحد على توثيق هذه الأحداث لأن التكفير
كان بانتظاره، كل ذلك الغموض وهذا التنظيم السري المتقن هو ما أضفى على
الفاتيكان هذه الهالة من الغموض والقوة والمهابة.
تم
بناء أول كنيسة بها في عهد القيصر قسطنطين عام 324 ميلادية واكتملت الفاتيكان عام
1475م بكنيسة السكستين الشهيرة والتي رسم جدرانها بيديه الفنان مايكل أنجلو.
وظل
القيصر قسطنطين هو الآمر الناهي في روما إلى أن نقل مركز الإمبراطورية إلى بيزنطه
عام 324 م، ورحل هو والعسكر عن روما وترك وراءه فراغًا في السلطة، وكان لابد أن يشغله
جماعة منظمة، ووجد رجال الدين أنفسهم فجاة يحكمون روما من مقر الفاتيكان.
وتولي
البابا - رجل الدين والمرشد الروحي للكاثوليك - حكم روما، وكان عليه أن يُضفي على
نفسة شرعية تجبر العامة على الانصياع لأوامره؛ ولم يكن هناك أفضل من أن يعلن أنه
صاحب السلطة المطلقة التي لا تخطأ أبدًا لأنها مفوضة من السماء، ولا
تعلوها سلطة دنيوية.
وكان أول اختبار حقيقي لقوة هذه السلطة في العام 1077 م عندما
استطاع البابا جريجور الانتصار على القيصر الألماني هاينريش، حيث قام
بتكفيره وإخراجه من الدين المسيحي أمام شعبه ولم يتركه حتى أذعن له وطلب منه
الصفح وقَبّل يده علانية.
وعندها
أيقنت أوروبا المسيحية مدى قوة البابا السياسية؛ بسبب قوته المدعمة من السماء، وبعد
أن استطاع أن يزلزل عروش الملوك بسبب فتاوى التكفير.
ولا
يخفى على أحد كيف استغلت الكنيسة الفلاحين والبسطاء وزجت بهم في الحروب
الصليبية على الشرق الأوسط باسم الرب،
وظلت
روما دومًا مقرًا للباباوية إلا مرة واحدة، حيث انتقلت إلى نابولي عام 1294م على
يد البابا كولستين الخامس، والذي كان يكره روما وفساد أخلاقها، وكان يحب الفقراء
وحياة الزهد، ويقدس القيم المسيحية السامية. ولكن هذا لم يعجب الأساقفة الذين
أفسدتهم السلطة - فالسياسة والسلطة تفسد المتدينين - فقاموا بعزله
وسجنه ومات المسكين بعد عام ونصف، وعادت الباباوية لروما كسابق عهدها وسيرتها
الأولى.
وكانت
هذه الدولة الصغيرة ذات مصروفات كبيرة وبحاجة دائما للمال لتغطية أنشطتها؛ فقام
البابا بونيفاتس الخامس بإصدار مرسومه الشهير والذي ينص على أن الكنيسة
بالعالم واحدة، كاثوليكية مقدسة، وسلطة البابا شاملة وعالمية، ولا خلاص أو
غفران لأحد إلا عن طريق هذه المنظومة؛ فأصدر صكوك الغفران مقابل المال، ثم خرجت
صكوك غفران للموتى، وأخرى تمحو خطايا المستقبل؛ فامتلات الخزائن. واستمر الحال إلى
أن جاء الألماني مارتن لوثر، والذي غير المسيحية بطباعته ونشره إصدارات ومنشورات
ضد الفاتيكان والبابا، وتطورت الأحداث وبقوة وكانت بمثابة ثورة أوروبية شعبية ضد
الكنيسة ورجالها، شارك في هذه الثورة الكثيرون من المعترضين والرافضين للفاتيكان
إلى أن وصل الأمر في النهاية إلى أن انقسمت الكنيسة إلى نصفين: كاثوليكية،
وبروتستانتية.
ورغم
فقدان الفاتيكان وقتها الكثير من المصداقية في قلوب تابعيها بسبب:
فساد بعض رجالها
وتدخلهم في السياسة، ومحاربتهم للعلم والعلماء، ورفضهم لكل جديد،
وتصديهم لإعمال العقل باستخدام نصوص الدين والفتاوى الجاهزة؛ إلا أن
الفاتيكان ما زالت تتمتع بسطوة دينية وأدبية في نفوس الناس لاقتناعهم بأنها ما
تزال تتحدث باسم الرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق