نهوض مصر..

المرء ليس محاسبا على ما يقول فقط ، بل هو محاسب على ما لم يقله إذا كان لابد من أن يقوله !







13.9.10

مصر التي لم أعد أعرفها

جئت في زيارة لمصر في شهر رمضان 2010 ، زرت خلالها أربع محافظات وهي القاهرة والإسكندرية والدقهلية ودمياط ، وذلك بعد غياب دام أربع سنوات، ومن أول وهلة، أحسست بشيء من الغربة، وبتغير واضح في سلوكيات ووجوه الناس، ولم يكن للأفضل للأسف، وكأن الناس ليسو هم الناس،  فيبدو أن السنوات القليلة الماضية قد غيرت المصريين وتركت آثارها السلبية عليهم؛ وهو ما أزعجني أكثر من الزحام والضوضاء والتلوث للماء والهواء وانقطاع الكهرباء

وهو ما ذكرني على الفور بما كتبه فهمي هويدي، ونوارة نجم، وعمر طاهر، وجلال أمين، عن المصريين الجدد والطافرين والمسلمين الجدد وماذا حدث للمصريين . وبالتاكيد ما يحدث يتم من فترة طويلة، وتدريجيا ولكن يبدو أن وتيرته تسارعت مؤخرا وبشكل مخيف؛ ولذلك تلحظه العين الجديدة أكثر من غيرها

فها هي الآثار السلبية لسياسات حكومة احمد نظيف 2004 ، والتي أُجبرت على تنفيذ أوامر صندوق النقد والبنك الدوليين، والإدارة الأمريكية؛ مما أبعدها عن الشعب وشعرت بالغربة معه، ووجد النظام ضالته في التزاوج مع أصحاب المال والأعمال؛ فتعاظم الفساد وتم نهب الثروة وتقلص الدعم على السلع والخدمات والتعليم !!! وتم طرد العمال وازداد معدل البطالة بعد الخصخصة غير الشفافة، وازداد التضخم؛ فتضاعفت الأسعار مرات عدة حتى اقتربت من مثيلاتها بالدول الغنية، وفي ازدياد دائم ومتسارع مما ترك أسوأ الآثار السلبية على الأحوال المعيشية للغالبية العظمى للمصريين، وبالتأكيد الأحوال الاجتماعية؛ فانهارت الطبقة الوسطى، ووصل أغلبها للفقر المدقع مما أرعب الجميع وجعل الأمل في المستقبل معدوم، والأمل الوحيد للفرد ألا يفقد ما تبقى له من كرامة إنسانية وألا تتدهور الأمور للأسوأ، وهو الاحتمال الأكبر للأسف، وهذا الرعب قد ظهر جليا على السلوكيات الفردية؛ فحدث تراجع رهيب في القيم الاجتماعية السليمة وانفصال عن الواقع تمثل في بعض الصور التي لاحظتها 

أولا: ازدياد التدين الشكلي الهستيري، والتستطيح المخل للأسس والقواعد، والتضييع الخطير لجوهر الدين، ووضع العبادة فوق العمل، والدين فوق العلم؛ فتسرب إلينا أغرب ما في الفكر الوهابي والأصولي؛ فأسرف الرجال في التظاهر بالتقوى، واختبات النساء في النقاب الخليجي؛ وذلك لاقناع النفس والآخرين بأننا قد لا نملك مالا، ولكننا نملك ما هو أفضل وهو التقى والورع

ثانيا: ازدياد الإحباط العام، وتبني أفكار فترة النكسة، والسخرية من كل قضايانا المركزية العربية والإسلامية، ورغبة جامحة لدى الغالبية في بيع كل القضايا والتخلي عن الهوية والهجرة إن أمكن. فبعد زيادة قنوات التجهيل الفضائية، والتخريب المتعمد للتعليم الحكومي، وانعدام الصلة بينه وبين سوق العمل؛ ففقد العلم قيمته في عيون الصغار فعزفوا عنه، واختاروا الجهل والوصولية والفهلوة، فضاع العلم والتربية والثقافة دفعة واحدة، وكان من أهم المظاهر السلبية لذلك ازدياد الهوس الكروي، والتعصب الأعمى لكل ما هو مصري عند أي تنافس، وأتذكر هنا مقال لنيويورك تايمز قالت فيه: إن التاريخ أثبت أن الكرة والخبز فقط بإمكانهما تحريك المصريين

ثالثا: ازدياد الأنانية، وعدم المبالاة بحقوق الآخرين وبحرياتهم الشخصية في اختيار منهاج حياة مختلف أو حتى دين أو مذهب مختلف، والتصرف بكل غطرسة وعنف واحتقار فج لكل الفئات الضعيفة، وخاصة المرأة بالتمييز والتحرش الجسدي واللفظي والبصري واستسهال كل جرائم الشرف وما كنا نخجل منه من قبل

رابعا: اختفاء اللمسة الجمالية والذوق من كل الأشياء والأعمال وتعايش الكثيرين الغريب مع القبح وعدم امتعاضه

خامسا: زيادة الرغبة في الانتحار السياسي الجماعي فلا اهتمام بأهمية أو جدوى أو وسيلة التغيير السياسي المطلوب، أو أي تغيير بل والاستسلام لكل المخططات حتى بقى البعض الاصلاحي المعارض وحيدا يتلقى سخرية العامة وبطش الأمن

لقد أصبحنا جميعا عبئا على مصر، نسير بقوة القصور الذاتي لأسفل لنعود بمصر للظلام بسرعة الضوء
أنا لست متخصصا في علم الاجتماع، ولكنه استقراء شخصى لمشاهداتي ولا أعتقد أنني أضفت كثيرا لما دونه الآخرون عن الحالة، ولكنني هنا أحذر من الوتيرة المتسارعة جدا للأحداث في السنوات الأخيرة، ومن آثارها السلبية على السلوكيات فلقد تركت هذه الزيارة في نفسي حزن وخوف شديدين على مستقبل مصر