نهوض مصر..

المرء ليس محاسبا على ما يقول فقط ، بل هو محاسب على ما لم يقله إذا كان لابد من أن يقوله !







14.5.11

النموذج التركي .. وجدوي الاسترشاد به

يردد البعض عند الحديث عن مصر المستقبل طرح النموذج التركي كمثال يحتذي به لانه النموذج الاقرب الينا و لظروفنا الحالية وذلك لوجود اوجه تشابه متعددة جغرافيا واجتماعيا واقتصاديا وما يشجع اكثر هو ان تركيا استطاعت ان تحقق ديموقراطية مستقرة واقتصادا مزدهرا حتي انه يُشار اليها علي انها النموذج الوحيد الناجح بالعالم الاسلامي في الديموقراطية والحداثة - وبالتاكيد ليس النموذج الامثل فبه العديد من العيوب والنواقص و ما زال نموذجا ناشئا يبحث عن مستقبل افضل - وربما يكون هذا الطرح صحيحا لحد كبير لانه من الضروري الان الاسترشاد بتجربة ناجحة في مرحلتنا المفصلية الحالية وسيكون من العبث الاستهداء بالتجربة الالمانية او الكورية مثلا وذلك لوجود اختلافات جوهرية بيننا مجتمعيا وتاريخيا ناهيك عن ان لكل دولة خصوصيتها وان ما يصلح لدولة بعينها قد لا يصلح لاخري وان نسخ تجربة بحذافيرها حتي لو تماثلت الظروف هو ضرب من المستحيل بل علي كل دولة ان تصنع نموذجها المناسب .. وبناء عليه يتحتم علينا قراءة ما بين السطور بعد طرح عدة تساؤلات

التساؤل الاول : ما هي اوجه التشابة بين الحالتين المصرية والتركية والتي دعت البعض لترشيح ذلك النموذج للاسترشاد به ؟
ا - ان كلاهما دولة شرق اوسطية تمتلك تراثا حضاريا عظيما وموقعا جيواستراتيجي مؤثر وموارد متنوعة وهو ما يخلق فرصا اقتصادية هائلة
ب - ان لديهما شعبا غالبيته من الشباب ويتميز كلاهما بالديناميكية وقدر جيد من الثقافة والتعليم - ويذكر ان عدد سكان تركيا حوالي 75 مليون نسمة ومصر 85 مليون نسمة
ج - انهما يمتلكان شخصية وطنية متميزة وسجل حافل بالانجازات فلقد قادت مصر العالم الاسلامي طويلا وكذلك تركيا هي التي قادته في اخر 600 سنه له وذلك حتي مولد جمهورية كمال اتاتورك عام 1922 ومن المفارقة ان مصر حصلت علي استقلالها من انجلترا بصورة احادية بنفس العام في 28 فبراير 1922 وتبلور بكلاهما بتلك الفترة نهضة تنويرية ثقافية وبرلمانية متميزة
د- ان كلاهما دولة ذات اغلبية مسلمة وسنية ويعتبر الاسلام التركي والمصري هو الاكثر انفتاحا ووسطية وبالتالي فان قابليتهما للتحديث والنهضة متقاربة لحد كبير

التساؤل الثاني : هل حققت تركيا نهضة اقتصادية مميزة تؤهلها لان تكون مثالا لنا ؟ وماذا تقول الارقام الاقتصادية المقارنة لنوضح الفارق ان وُجد ؟

لقد استطاعت تركيا ان تنهض وسريعا بالرغم من الانتكاسة التي تعرضت لها في التسعينات وكاد اقتصادها ان ينهار بسبب الفساد وسوء النظام المصرفي ولكن تم انقاذه بفضل حكومة حزب العدالة والتنمية ليصبح الاقتصاد الاكبر اسلاميا مع انها دولة غير نفطية مثلنا تماما وذلك باستخدام سلاح العلم والتكنولوجيا والقانون فبلغ الناتج المحلي الاجمالي الاسمي عام 2010 مبلغ 730 مليار دولار في حين انه بمصر 210 مليار دولار - وبلغ دخل الفرد التركي السنوي الاسمي 11 الف دولار في حين انه للمصري 2700 دولار - وتبلغ قيمة الصادرات التركية السنوية 117 مليار دولار في حين انها في مصر 30 مليار دولار - وبلغ عدد السياح لتركيا بذلك العام 31 مليون سائح في حين انه بمصر 15 مليون سائح - هذا ومنذ 4 سنوات لم تعد تركيا تصدر ايدي عاملة للخارج
واضح من المقارنة مدي الفارق رقميا والذي قد يغري البعض بتقليد هذا النموذج ولكن هل يمكن اللحاق بالارقام الاقتصادية التي حققتها تركيا سريعا ؟ الاجابة بالتاكيد نعم وكما اكد ذلك كثير من الاقتصاديين فيمكننا و في خلال الاربع سنوات الرئاسية القادمة ذلك بشرط ان نبدا من حيث انتهي الاخرون فنضع مصر علي الطريق السليم من خلال صياغة مشروع نهضوي وطني واقعي

التساؤل الثالث : ماهي الخطوات التي اتخذتها تركيا لتحقيق نهضتها السياسية والاقتصادية ؟ وكذلك ما هي العوامل الخارجية التي ساعدتها علي ذلك ؟
اولا : اعلان الدستور المدني الديموقراطي من بداية نشاة الجمهورية والذي اكد علي حق المواطنة والعدالة الاجتماعية بل ان كمال الدين اتاتورك حاول فصل تركيا عن تراثها الاسلامي تماما حتي انه احل الحروف اللاتينية محل العربية واصر علي تاسيس جمهورية علمانية وبشكل متطرف و لم يدرك حينها ان هذا الدستور العلماني هو ما سيعطي فيما بعد الفرصة للاحزاب ذات المرجعية الدينية للوصول للسلطة وبشكل ديموقراطي ولكن هذه المرة من خلال فكرة توفيقية بين المتناقضات ومن خلال المزج بين القيم الاسلامية الصحيحة والقيم المدنية الديموقراطية - فحزب العدالة والتنمية الحاكم حاليا تم تاسيسه علي يد رجب طيب اردوغان كاخر صورة لاحزاب التيار الاسلامي والتي دخلت الحياة السياسية في عام 1971 بحزب الخلاص الوطني بقيادة نجم الدين اربكان ثم تحول الي حزب الفضيلة ثم اصبح حزب الرفاة ثم السعادة - وحزب العدالة والتنمية ليس حزبا ايدولوجيا فقط بل انه حزب برجماتي متصالح مع الحداثة ومفاهيم الدولة المدنية ويلتزم بخطاب جديد يتوافق مع ظروف المجتمع التركي و ايضا الظروف الدولية المتغيرة و يقبل بقواعد اللعبة الديموقراطية فاستطاع الفوز بالانتخابات العامة سنة 2002 بنسبة 34% من الاصوات وفي الانتخابات المحلية سنة 2004 بنسبة 42% من اجمالي الاصوات وللحزب فروع ب 3000 بلدة ويتجاوز عدد اعضائه المسجلين 3 مليون عضو ونجاحه هذا مازال يغري كثير من احزاب التيار الاسلامي بتكرار تجربة ذلك الحزب والذي اكتسب قبولا شعبيا ودوليا واصبح الشكل المقبول للاسلامين من وجهة نظر كل التيارات الاخري

ثانيا : ان تركيا استفادت من الاصلاحات الاجبارية التي فرضها عليها الاتحاد الاوروبي كشرط للانضمام اليه وهذه الشروط عبارة عن وصفة اصلاحية جاهزة للتطبيق وضعت تركيا علي طريق تحقيق ارقام اقتصادية مميزة وساعدها في ذلك ان نسبة 75% من الشعب التركي يريد تلك العضوية فهناك اعجاب شعبي واضح بالمعايير المدنية والاقتصادية الغربية رغم عيوبها الاجتماعية المعروفة للجميع - ولم تكن مسيرة التجربة التركية سهلة بل انها واجهت العديد من المعوقات الكبري وكان اهمها وصاية وتدخل الجيش الدائم في الحياة السياسية فعلي الرغم من انه جيش حديث وقوي وعضو في جيوش حلف الاطلنطي الا انه قام في الفترة من 1960 الي العام 1997 بالاطاحة باربع حكومات بما يشبه الانقلاب العسكري ولكنه ومؤخرا تراجع دوره وانصاع للمطالب الدولية والشعبية وانسحب تماما واقر بنتائج صناديق الاقتراع والتزم بدورة الطبيعي وهو حماية الامن القومي و ليس التدخل والوصاية بحجة حماية الدولة المدنية والدستور - و ما ننشده لمصر تلك النهاية التركية السعيدة وان يحقق الجيش المصري المطالب الشعبية المشروعة ويعود لثكناته ويترك الساحة للسياسين للعمل في ظل ديموقراطية حقيقية .. و نتمني ان نبتعد عن سيناريو النموذج الجزائري حيث يحكم الجيش علي الارض و لكنه يضع في خارج الصورة رئيس دولة ضعيف - بو تفليقه - و ان نبتعد ايضا عن سيناريو النموذج السوداني حيث تحالف الجيش هناك مع احد التيارات السياسية وسيطرا علي كل الامور ومازالا يحكمان معا حتي اليوم

لقد اكتسبت تركيا وعيا وحنكه واضحة علي الصعيد الاقليمي والدولي وقامت بتاسيس علاقات ومصالح مع الجميع واستطاعت كسب تعاطف قطاعات شعبية عربية كبيرة باتباع سياسة دعائية ماكرة واحيانا انتهازية - وقد اثار هذا النشاط التركي بالمنطقة غيرة مصر اكثر من قلقها واعتقد ان العلاقات بينهما ستشهد قريبا تطويرا ملموسا قائم علي التفاهم والمصلحة المشتركة لانني علي يقين ان مصر ستستعيد دورها الاقليمي والحضاري الذي يليق بها من خلال صياغة نموذجها الوطني الخالص و القائم علي رؤيه استراتيجية نهضوية جديدة