نهوض مصر..

المرء ليس محاسبا على ما يقول فقط ، بل هو محاسب على ما لم يقله إذا كان لابد من أن يقوله !







25.6.11

الطريق الثالث ... والذي مازال مفقودا

استكمالا للتدوينة السابقة عن اليسار، والتي انتهينا فيها إلى أهمية وضع تصور عملي لمنظومة اقتصادية وطنية ذات آليات محددة لاقتصاد مصر،  حيث أننا في النهاية سنتفق على الدولة المدنية، وعلى الديموقراطية، وعلى حق المواطنة، وسيبقى الجانب 
الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية هو المطلب الملح والمعادلة الصعبة. وقد يتراءي للبعض تصور أطروحة وسطية بين الاشتراكية والليبرالية، بادعاء أنها ستتناسب مع ظروفنا الحالية، وتعتمد على الثقافة الوطنية، وتراعي الخصوصية الذاتية، وذلك بطرح طريق ثالث يضمن للعامل حياة كريمة وفي نفس الوقت لا يحارب الملكية الخاصة أو يعرقل التجارة أو الاستثمارات الداخلية أو الخارجية بالشكل الذي ينهض بالاقتصاد والمجتمع. باعتبار أن هذا الطريق المزعوم هو خط بين خطين متوازيين أحدهما على اليسار والآخر على اليمين
ولكن ذلك يتطلب معرفة أين يكون مكان هذا الطريق بالتحديد بين الخطيين؟ و إلى أي الطريقين يميل أكثر؟ و هل هو خط مستقيم أم متعرج بينهما؟ وأنا هنا لا أدعي امتلاك الإجابة على هذا السؤال المركب

ولكن البحث عن هذا الطريق الثالث ليس بالفكرة الجديدة؛ فهناك العديد من المحاولات التاريخية القديمة والحديثة لايجاد ذلك الطريق كمحاولة (نهرو) بالهند أو (عبد الناصر) في مصر وآخرين غيرهم
أما في أوروبا وحتى وقت قريب، كانوا يتبعون أحد طريقين
الطريق الأول: هو ما تبنته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك للنهوض بالقارة المدمرة عن طريق سيطرة الدولة على الاقتصاد من أجل تخصيص ميزانيات تمول الرعاية الاجتماعية المقدمة للمواطنين بالدرجة الأولى
الطريق الثاني: وهو ما عرف باسم النيوليبرالية الرأسمالية، والذي تبناه كل من رونالد ريجان ومارجريت تاتشر ويرتكز على تخلي الدولة عن التدخل في الاقتصاد، وإطلاق يد السوق للمنافسة، وهي نفس أفكار (مدرسة شيكاغو) والتي أسسها ميلتون فردمان

ومؤخرا وبالتحديد في أواخر التسعينات ظهر داخل اليسار ما سُمي بالطريق الثالث، وتبناه (بيل كلينتون) في نهاية حكمة 1993/2001 ، ولكن اتضحت معالم هذا الطريق أكثر عندما تبناه وبقوة (توني بلير) 1997/2007 بناء على أفكار مرشده الفكري عالم الاجتماع البريطاني (أنتوني جيدنز) مؤلف كتاب (الطريق الثالث). و قد تحدث توني بلير عن هذا الطريق في إحدي قمم الاشتراكية الدولية قائلا: إن الدولة بعد أن اصبحت قليلة العوائد بسبب الخصخصة، وخفض الضرائب؛ رغبة في تحفيز الاستثمار، أصبحت الدولة عاجزة عن القيام بمهامها، مما يهدد بتفاقم مشكلة البطالة، ويزيد من الضغوط الاجتماعية؛ وهو ما يجعل بالحل الوحيد، ويتمثل في أن تنقل مسئوليات الدولة الاجتماعية إلى مؤسسات المجتمع المدني، والجمعيات الأهلية، والنقابات

وقد تحول هذا الطريق إلى موضة فكرية، وحظي وقتها بشعبية في أوساط الأحزاب اليسارية الاجتماعية والاشتراكية في اوروبا، وبفضله سيطرت تلك الأحزاب على 13 حكومة من 15 هي دول الاتحاد - كما ذكرنا سابقا - و لكن يرى البعض أن هذا الطريق كان بمثابة قارب نجاة للأحزاب الاشتراكية؛ فقد مكنها من الوصول للسلطة أكثر من كونه حلا لأزمات المجتمع الاقتصادية، وأن تلك الأحزاب قد قبلت بتغيير بعض مبادئها وانفتحوا على الليبرالية الجديدة، ولم يقدموا سوى معالجات سطحية للمشكلات العميقة التي تولدها الراسمالية. وحيث إن الطريق الثالث هو طريق يعتمد على الطريقين الذين يخالفهما يظل بلا مضمون واضح في حد ذاته، ولذلك لم يستطع أن يتبلور إلى أيدولوجية و لم تستطع أحزاب اليسار من خلاله الاستمرار في السلطة، وخرجوا جميعا سريعا واستمر الاقتصاد العالمي في مواصلة سيره في اتجاهه السابق النيوليبرالي، وما اتبعه ذلك من تراكم رأس المال في يد طبقة محدودة جدا، رغم تزايد معدلات النمو الاقتصادي وهو ما دعى البعض مثل (أليكس كالينيكوس) في كتابه (ضد الطريق الثالث) أن يطلق على هذا الطريق الثالث، بالنيوليبرالية المتنكرة في مسوح الديموقراطية الاشتراكية
كذلك وبناء على رؤية الطريق الثالث، والتي ترتكز على مشاركة الحكومة لمنظمات المجتمع المدني وخاصة في موضوع الرعاية الاجتماعية؛ قد جعل أحد ابرز مفكري هذه الأطروحة وهو (ريتشارد فايزمير) أن يدعي بأن دول العالم الثالث غير مؤهلة لتبني هذا الطريق أوالاستفادة منه؛ لأنها دول تفتقر إلى المجتمع المدني، ولأنها دول فقيرة اقتصاديا وفكريا. وإضافة إلى هذه النظرة الاستعلائية في طرح الحقيقة فقد أعطى توني بلير بسياساته الخارجية والتابعة للولايات المتحدة على طول الخط صورة سيئة عن هذا الطريق

وفي النهاية ما زال البحث جاريا عن هذا الطريق الثالث، ولم يتوصل أحد بعد إلى ماهيته المثلى وآلياته، ومقدار السلطة الممنوحة لمنظمات المجتمع المدني، وكيفية حصولها على التمويل اللازم لممارسة هذا الدور الاجتماعي بكفاءة. و لأن الراسمالية مازالت تمتلك قدرة فائقة على إعادة إنتاج نفسها؛ تظل هناك حاجة ماسة لوجود طريق حقيقي يقوم على حركة جماهيرية واسعة ويقظة ويرتكز على الطبقة العاملة المنظمة، ويناهض معها الآثار السلبية للراسمالية والعولمة، ويهتم بعلاج المشكلات الفعلية للمجتمع، وتلك هي الضمانة المثلى لتحقيق العدالة الاجتماعية، وهي التي ستساعد و قوة في تحقيق تنمية مستدامة، وليست الأرقام الاقتصادية الخادعة. فلا بديل عن الاستثمار في البشر ورفع مستوى الرعاية المقدمة لهم - تعليمية وصحية - مما سيؤدي لرفع كفاءتهم وتشجيعهم على الانتاج؛ وبالتالي زيادة دخولهم وهو الوسيلة الناجعة لمواجهة أي أزمات اقتصادية محتملة قد تهدد الاقتصاد الوطني

3.6.11

التيار اليساري المصري ... وتساؤلات ضرورية

بعد 25 يناير - وعلى حد علمي - ظهر على الساحة السياسية حزبان يساريان جديدان: هما حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، وحزب العمال الديموقراطي إضافة إلى حزب التجمع الموجود أصلا على الساحة منذ عام 1976 ،وكذلك عودة الحزب الشيوعي المصري للعمل في النور مرة أخرى، وكان أول حزب يساري عرفته مصر، وتأسس عام 1921 باسم الحزب الاشتراكي المصري، وذلك على خلفية حراك ونشاط عمالي مميز شهدته مصر حينها، وساهم في تلك المرحلة العديد من الأجانب المقيمين بمصر و خاصة الجاليتين الإيطالية واليونانية، وهي نفس فترة قيام الثورة الروسية الأولى والثانية 1905/1917 والتي استبشر بها الكثيرون، واعتبروها نقطة تحول لتصحيح المسار التاريخي لصالح قضايا العمال والفلاحين والفقراء بما يضمن لهم مزيد من العدالة الاجتماعية وكخطوة للأمام بعد أن أهدت لنا - الثورة الفرنسية الثالثة 1848 وما سُمي بربيع الثورات الأوروبية - أسس الدولة المدنية التي تقوم على الحرية والإخاء و المساواة. واليوم وبعد هذه الانطلاقة الجديدة للأحزاب اليسارية المصرية الأربعة كان من الضروري وحتي تتضح لنا الصورة أن نطرح مجموعة من التساؤلات

أولها: ما أهمية وجود تيار يساري منافس وقوي على الساحة السياسية؟ و لماذا يجب علينا أن ندعمه ونقويه؟
بالتأكيد نخطأ كثيرا لو اختصرنا العدالة الاجتماعية في الديموقراطية فقط، و نخطأ أكثر لو اختصرنا الديموقراطية في الانتخابات فقط !! فالعدالة الاجتماعية هي مطالب مشروعة تتراكم وتترسخ من خلال خبرات وتجارب نضالية، تبدأ من القاع حيث تتبلور وبصدق في القواعد الشعبية الممثلة في نقابات واتحادات حرة تصل بصوت الناس ومطالبهم إلى السلطة. مع التاكيد على أن الوصول للسلطة من خلال ممثلين برلمانين أو حكوميين ليس هدفا في حد ذاته، بقدر ما هو وسيلة لتنفيذ تلك المطالب، ومن هنا يصبح من الضروري وجود تيار يساري قوي على الساحة؛ يتبنى تلك الرؤية ويصبح الضابط لبوصلة التوجه العام والسياسة العامة للمجتمع بالشكل الذي يضمن عدم استمرار ظلم وتجاهل تلك الفئات الفقيرة ويمنع الانتقاص من حقوقهم التي غابت عنهم سنوات طويلة

والتساؤل الثاني: ما هي التحديات التي تواجه التيار اليساري المصري؟
ا- ضعف القاعدة الشعبية التي يرتكز عليها حاليا مثل كل التيارات الأخرى والتي عانت جميعا من تضيق وتهميش في ظل حياة سياسية فاسدة طوال العقود الماضية
ب - أن جانبا من هذا التيار نخبوي بعيد عن الشارع والذي اختلف كثيرا عن شارع الستينات؛ مما يتطلب جهدا كبيرا في استقطاب أنصار جدد مستعدين للنضال من أجل قضايا الفقراء، خاصة في ظل ضعف مصادر التمويل وقلة الكوادر الحزبية
ج - صعوبة التأقلم مع فكرة التحالفات والائتلافات، وخاصة مع تيارات قد تطرح العدالة الاجتماعية كمجرد دعاية انتخابية أو تتبناها كهامش محدود كتحصيل حاصل وهو ما لا يتفق مع رؤية اليسار التي تنشد نموا اقتصاديا شاملا للمجتمع ويحفظ في نفس الوقت للمواطن البسيط حياة كريمة

والتساؤل الثالث: ما هي صورة التيارات اليسارية على الساحة الدولية؟
الصورة الأولى: هي التيار اليساري في أوروبا الشرقية والذي أصبح يجمع خليطا مشوها من الاشتراكية والليبرالية ومازال يبحث عن طريقه في ظل ديموقراطية هشة تحتاج للكثير من الاصلاح السياسي ومحاربة الفساد المستشري
والصورة الثانية: هو يسار أمريكا اللاتينية، فرغم الصعود والنجاحات النسبية التي حققها إلا أنه مازال يتخبط لأن الناس هناك لم تشعر بعد بالتغيير، ومازالت تلك الدول تعاني من مشكلات واضحة
والصورة الثالثة: اليسار الأوروبي - وأود أولا أن أؤكد على أن ما تتمتع به المجتمعات الأوروبية من هامش جيد من العدالة الاجتماعية يميزها عن العالم كله هي نتاج نضال طويل للعمال ونقاباتهم واتحاداتهم بالدرجة الأولى، وليست بفضل الأحزاب السياسية لأن هذه القيمة تأصلت في المجتمع. ولم تكن الديموقراطية أو الدولة المدنية إلا الوسيلة الجيدة للحفاظ على هذة المكتسبات، ولعل هذا ما يشعرك حاليا بعدم وجود فارق كبير بين حكومة يمينية أو أخرى يسارية في السلطة من هذه الناحية
و لقد سيطر اليسار على أوروبا منذ 12 عاما، حيث استطاع تشكيل 13 حكومة في 15 دولة، هي عدد دول الاتحاد، أما اليوم فإنه يشارك في 8 حكومات ائتلافية فقط في 27 دولة أوروبية، آخرها كان نجاح الحزب الاشتراكي الإسباني بزعامة ثاباتيرو 2004

والتساؤل الرابع: ما هي أهم الأسباب التي أعاقت سيطرة اليسار الأوروبي وأدت لتراجعه المتواصل في منافسته للتيار اليميني؟
ا - غياب جزء كبير من القوة المجتمعية الحاضنة للتيار الاشتراكي وهي الطبقة العاملة نتيجة تغير أنماط العمل من كثيف العمالة إلى أعمال قائمة على التكنولوجيا والمعرفة - أو هروب رأس المال للدول الرخيصة العمالة - وتحول جزء كبير من فئة العمال إلى الطبقة المتوسطة والبرجوازية الصغيرة، وهي طبقة ذات طاقة ثورية محدودة
ب - صعود اليسار الراديكالي بقوة على حساب يسار الوسط المنقسم أصلا مما يهدد دوما بقطع الطريق أمامه نحو السلطة
ج - تبني أغلب أحزاب اليسار الأوروبي لأفكار مشابهة لأفكار اليمين خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1991 ، وبعد سقوط جدار برلين، وما أطلق عليه الطريق الثالث وهو ما لم يقنع الكثيرين

والتساؤل الخامس: ما هي أهم المشكلات الاقتصادية التي تواجه اليسار حاليا وتمنعه من تحقيق أكبر هامش ممكن من العدالة في ظل تغول العولمة وسياسات السوق و التجارة الحرة التي فرضتها على العالم المؤسسات الدولية والتكتلات الاقليمية؟
ا - عودة تركيز ثروة الأمم مرة أخرى في يد طبقة محدودة جدا من الرأسمالين مما أخل بعدالة التوزيع؛ وبالتالي زيادة نسب التضخم والبطالة وهو ما عبر عنه الكثيرون مؤخرا بالنزول للميادين وتصاعد حدة الاحتجاجات والاضرابات
ب - إن المشكلات المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة قد ترتب عليها رفع لأسعار الغذاء والطاقة وعراقيل كبرى أمام التمويل مما ترتب عليه انكماش اقتصادي عالمي دفع الحكومات وأعوانهم من الرأسمالين لمحاولة التنصل من بعض مكتسبات العمال. وكان من المنتظر أن يستفيد اليسار من هذه الازمة وتبعاتها، ولكنه ظهر مترددا أغلب الأحيان في تحديد وسائل الخروج منها على عكس اليمين الذي تظاهر بحس عملي وبنكهة يسارية ساعده فيها أن أغلب الناس قد حملوا المصرفيين والشركات المالية الكبرى مسئولية الأزمة وليست سياسات اليمين

وفي النهاية نصل للتساؤل السادس والأخير: ما هو الدور المطلوب الآن من اليسار المصري الجديد؛ لكي يحقق ما يأمله منه الناس في هذه المرحلة الفاصلة؟
ا - مساندة الفقراء، وتوعية الطبقات العاملة بحقوقها، والتفاعل معهم ودفع المجتمع نحو اطلاق كافة الحريات النقابية وحرية التظاهر والاضراب، وتنفيذ الأحكام القضائية المؤيدة لذلك. فالعمل النقابي سيؤتي ثماره سريعا فهو التربة الخصبة لنمو اليسار وبالتالي سينعكس وبقوة على العمل الحزبي أيضا
ب - الإصرار على أجر عادل يضمن حياة كريمة للجميع من خلال حد أدنى وحد أقصى للأجور، وخلق نظام ضريبي تصاعدي يوفر للدولة موردا لازما لتقديم مزيد من الخدمات الاجتماعية و الصحية و التعليمية والإعانات والبرامج التاهيلية والتي تعود على المجتمع والفرد بالفائدة، ولكي تصبح مصر مقصدا للمستثمرين ليس بسبب رخص عمالتها، ولكن لكفاءة تلك العمالة، وللمزايا الاستثمارية الكثيرة الأخرى
ج - وضع تصور عملي لمنظومة اقتصادية ذات آلية محددة وخريطة طريق واضحة لإنقاذ اقتصاد مصر نُصلح بها ما أفسده الانفتاح العشوائي في العقود السابقة؛ حتى نتمكن من الانطلاق للمستقبل، و نحن على أسس قوية تضمن استمرارية هذا النجاح